الخميس، 30 أكتوبر 2008

ثلاث نظريات لتحديد العقل


















  • ثـلاث نظـريـات لتـحديـد العقـل
    تنشيط التفاعل الإنساني لجميع العقول المفكرة في العالم لغاية جوهرية هي تحديد مصدر الحروب من خلال تطور العقل البشري والتوجه الدائم عبر التاريخ نحو امتلاك السلاح وإقامة الجيوش وعدم التوصل إلى حل مشكلة الحروب واستمرارها عبر العصور .
    فالتعامل المعرفي لواقع المعطيات التاريخية وتحديد ماهية الحروب وتوجيه الوعي الإبداعي لفهم الأسباب الأساسية لها ، فعلى الرغم من معرفة ماهية العقل في تكوين وعيه استمر الخلل في العلاقات الإنسانية وأساليب تفاعلها وتعاملها مع واقع وجودها الأرضي ، وكأن الخلل في بنيتها لا نهائي بالرغم من معرفته وتحديد أسبابه ومؤثراته على وجود الإنسانية بالذات .
    ويمكن أن نحدد ثلاث نظريات لوجود العقل نتعامل من خلالها على أساس بنيتها ومعلوماتها حول تحديد وتكوين العقل المفكر والمبدع ومعرفة النوازع الإنحرافية في عطاءاته .
    تمثل النظرية الأولى طريقة تكوين العقل وتفاعله مع ذاته ومع واقعه المصمم للعيش ضمنه ومن خلاله كإطار لعلاقات تبادلية بين الإنسان والإنسان وبين الطبيعة التي تحتويه ، وهو في غايته كوجود له دوافعه الماورائية في تحديد العلاقة بين الكونية والعقلية وتلازم وجودهما مع قضية الخلق الإلهي . فالإنسان كوجود محدد مفبرك لأداء أدوار كيفما كان شكلها وجوهرها مرسومة بدقة ومسطرة على لوح محفوظ ، تعطي الإنسان وجوده وتراقب سلوكه وتفاعله مع واقعه ، ومع معطياتها المعرفية لتكون ملاذاً له وقت الحساب لأنها تدرك عفويته وشروره الضمني وأساس تكوينه المجبول على قدرته الفائقة لتحمل العذاب والتخلص منه فالإنسان هو الناتج الجزئي عن العقل الكلي ، ثم تصميمه على أساس التنوع ، فيه من الألوان التكوينية ما لا يمكن حده ولا تحديده لأنه ثمرة خلطة تم انتقاءها عشوائياً ، مما أعطاها تكويناً مماثلاً لتنوعها وانعكاس مكوناتها على شخصيته وعقليته ، فالشكل المتباين والمتنوع للوجود البشري هو ناتج عنها تعطيه لون البشرة وتنوع المظهر والعقل وكل ما يحتويه الإنسان شيء مختلف عن غيره ومتوافق معه في الوجود والعطاء والتفاعل ، وكل ما يحمله الإنسان متميز في الصفات والوعي ، إنه تنوع خارق في وسط خارق التعقيد تم تصميمه بدقة فائقة لمعرفة المعطيات والنتائج التي يفرزها الكائن البشري كشكل مرادف لطبيعته الإنسانية ، فإن كان عطاءه خيراً نال خيراً وإن كان شراً ينال شراً ، فالعمل الإنساني الموجه عقلياً هو المعيار النهائي لوجوده والتعامل معه كمقياس لتوافقه مع معطيات خالقه ومدى تجاوبه مع هذه المعطيات .
    أما النظرية الثانية لتحديد ماهية العقل تقول : بأن العقل قائم بذاته ولذاته ومن أجل ذاته إن قدرته الضمنية قادرة على إبداع خصوصيته بتفرد ، فالوجود المتطور للعقل ثمرة نموه الطويل ، فهو قادر على إدراك مبتغاه في وجوده المتمايز في أساس قدرته على إنتاج الإبداع وفق ما يحقق ذاته ، فالكينونة العقلية هي كينونة نامية باستمرار على أساس تطور الأفكار والسلوك الإنساني هو سلوك عقلي ، لأن العقل هو ثمرة جهده ويعمل كي يغذي التفوق في وجوده ويعمق آليته السلوكية بناءً على معطياته . فالعطاء العقلي يؤدي إلى العطاء الإنساني وتنوع العطاء العقلي يغذي تنوع السلوك البشري ، فالانحراف يعني وجود خلل عضوي في بنية العقل ، وعدم توازن السلوك ناتج عن عدم توازن العقل ، وهو مصدر الشخصية والطاقة الإنسانية .
    والعقل في قدرته هو قوة التغيير ومعرفة ماهية المعرفة والأفعال إنه كلي القوة والإمكانية في توجيه السلوك وخلق معطيات جديدة نابعة من وجوده ، فلو لا وجوده لكانت الأفعال تلقائية وغريزية غايتها الأولى والأساسية تامين البقاء والتواصل النوعي .
    فالعقل نتاج عالي التعقيد والتمايز والتطور جعله يدرك ذاتية الأشياء وأهميتها وغايتها ، وسر وجودها بناءً على تتابع اكتشافاته وإبداعاته المستمرة عبر التاريخ فهو الصورة المتنامية وفق تنامي عطاءاته ، إن وجوده المستقل أبدع ذاته وخصوصيته وقام بتوجيه الحياة وفق إرادته .
    تحدد النظرية الثالثة للعقل بأنه صيرورة متلازمة مع الصيرورة في تأمين مكوناته الفكرية فهي التلازم بين الواقع وما يعكسه الواقع للعقل من مفاهيم وأفكار تتحدد ماهيتها وفق ماهية العلاقات الإنتاجية في أي عصر من العصور ، فالعقل هنا محدد وفق واقع الإنتاج والعلاقات الناتجة عنه بحيث يتزامن نمو العقل مع نمو الواقع الاجتماعي في تركيبته البنيوية المبنية على أساس طريقة استغلال الخيرات المادية . فليس للعقل وجود مستقل ما دام مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالواقع المعاش ، أنه طاقة الانعكاس الشمولية للواقع بجميع تركيباته الأساسية المعلنة والمستترة ، فالعقل ينطبق بأفكاره وفق الحاجات الملحة للمجتمع فهو بهذا المعنى يمثل عقلاً نضالياً يقود الواقع نحو هدف محدد غايته إدراك وإنشاء واقع أفضل ، مستغلاً الخلل الحاصل في التركيبة العامة لبنية المجتمع في إطار طريقة وأسلوب الإنتاج ، فالعقل هنا يتصف بقدرته على الخلق العملي بمعنى إحداث صيغ إنتاجية جديدة يترافق مع نمو علاقات جديدة ، والعقل ضمن هذا الأساس يتعمق في المفاصل البنيوية للمجتمع لأنه قادر على متابعة تكرار ذاته إذا استمر الواقع الإنتاجي على تكرار ذاته ، وعندما يخرج الواقع من عالمه المؤسس كأساليب إلى أساليب إنتاجية أخرى يخرج العقل المرافق له من أساليبه الفكرية إلى أساليب جديدة تتطابق مع الواقع وتعطيه خصوبته وقدرة الثبات والمتابعة .
    لقد حددنا ثلاث نظريات أساسية لمنشأ العقل الإنساني وأساليب تعامله وتفاعله مع نفسه والوجود بما يتناسب مع هذه النظريات والمجرى التاريخي لتطور العقل وتوثيق صلاته مع قضاياه وقضايا الوجود المحيط به ليكتمل التفاعل وتتعزز القدرة على إحداث أنماط جديدة من الفكر البنيوي قادر على كشف كل ما يحيط الوجود من معيقاته تحد من نمو العقل وقدرته على الإبداع والتواصل الإنساني عبر التاريخ .

    حسين عجمية ___ ansaroz56@gmail.com












العلاقة بين العولمة واندماج المصير الكوني





































1- الاندماجية المعرفية للعولمة ضمن التعددية الثقافية :



يتغير الوجود الإنساني نحو التجديد المتصاعد وتتعمق البنى داخل المنظومة الكونية بكافة مكوناتها الحية والعاقلة وتتغير ملامح الوجود مع تزايد الوعي المنطلق من التنوعات الثقافية القائمة على البعد الأكثر ملائمة للوجود الكوني لتعميق التواصل بين الثقافات والحضارات المتنوعة ، ولا بد في هذا المجال من حدوث اختراق يقوم على تعبئة كافة الثغرات داخل البنية الأساسية للوجود الكوني ، فعالم اليوم يحتاج أكثر من أي وقت مضى لحل جميع الإشكالات المعيقة للتفاعل بين المظاهر التعددية للمعارف والثقافات البشرية ، لأن جميع الحواجز القائمة في هذا العالم يمكن إلغائها ما دامت لا تؤثر على البنية الثقافية والأخلاقية وطبيعة الإنتماء إلى الأصول التاريخية ، ولم يزل الوهم العميق متأصلاً في بنية النفس البشرية بأن عولمة العالم يقتضي إلغاء كل الثقافات النابعة من مظاهر خصوصية لهل جذور ممتدة إلى عمق التاريخ بمعنى السعي الدائم لإلغاء الخصوصية التاريخية للشعوب بكل انتماءاتها العقائدية والعقيدية ، لأن التواصل القاصر عن فهم الحقائق بتجلياتها الإنسانية يؤدي إلى الفهم القاصر للوعي المعمم عليه بأن العولمة ستلغي كل الخصائص البنيوية للوجود التاريخي وإحداث نمط ثقافي ارتجالي فوقي يقوم على التعبئة المعرفية الضاغطة من فوق وتدمير كامل الوعي المتشكل من تاريخ الوعي الإنساني، غير أن هذا الافتراض واهم وينتمي إلى الوهمية المطلقة ، لأن تشكيل العقل الكوني لا يمكن أن يتم بدون إطار كوني ، لأن الوعي مهما تكن طبيعته لا يمكن أن يكون قادماً إلا من أجل الوجود في طبيعته الإنسانية ، ولا يستطيع أي فكر أو ثقافة أو معرفة الدخول إلى الواقع بدون أن تكون قد تأصلت في ذاته فالوعي لا يأتي إلا من الضرورة والحرية .


من هنا يجب أن نفكر ملياً فيما يجري على هذا الكون من تغيرات متأصلة في ذاته ، فالوعي لا يمكن أن يكون وعياً دون مقدرتنا على استيعابه وفهم ومحتواه ، فالتلازم بين ظهور الوعي وقدرة العقل البشري على وعيه قضية متأصلة في هذا الكون ومتطابقة مع التطور وظهور حاجات هذا التطور . فالعقل يتوافق دائماً مع وعيه الناشئ في ذات العالم وكل التغيرات مرتبطة بنظام الوجود المحكم ، لأن فهم الوعي المطابق لنظام التطور قضية متأصلة في الوجود ، فالمصالح لا تستطيع أن تعمم غير المصالح والمجتمع الصناعي لا يستطيع أن يعمم غير مصادر إنتاجه وفي مقدمتها السلعة وما دام المجتمع الصناعي قد وصل إلى تعميم السلعة منذ زمن بعيد فلماذا الخوف إذاً ، وإذا كان الثراء النقدي هو الغاية الأساسية لفتح الأسواق العالمية وتشكيل الطغمة المالية ، فإن رأس المال العالمي يدور ليخرج من بنوك الدول الصناعية الكبرى دون الحاجة لفتح الأسواق وهجوم السلعة الكثيف .


فالعالم في وجوده لديه كامل القدرة على صناعة وجوده ، لأن الواقع الإجمالي للتكوين البشري بكل ما فيه وما عليه ينخرط في مسار بنية العالم المتشكل وفق الأساس الجديد . إن إحداث أنماط جديدة من العلاقات والتفاعلات والتبادلات وكافة أنماط الشبكات القائمة على تفعيل الوجود الكوني يؤدي إلى تعميق جميع البنى المكونة له ، إنها لا تمثل إلغاءً ولا طغيان ما دامت في طبيعتها على إخراج الوعي من وجوده القائم إلى وجوده الكوني ، وبالتالي فإن الوعي يصبح أكثر تنوعاً وأكثر قدرة على العبور ليظهر التنوع والتماثل في بنية الوعي الكوني ، وبالتالي فإن الأفكار والثقافات تستطيع أن تعبر عن نفسها بحرية أكثر من إطارها المغلق أو مجالها المحدد داخل المنظومة البشرية التي تعيشها ، فتخرج من إطارها القومي إلى الواقع الكوني بعمق أكبر وأكثر قدرة على التفاعل ، إن الطبيعة الفكرية للوجود الإنساني قادرة على التعمق والاستيعاب المتواصل لكافة المجريات الكونية وكل الأفكار السائدة فيه ، فالنزوع الدائم نحو المعرفة المجردة وما بعد المجردة وحتى المعرفة من خارج الوجود هي ملامح جوهرية في بنية العقل و أساس التوجهات المستمرة للعقل البشري ، إن كافة البنى العقلية الحاوية مفاهيم أصولية متوهمة تماماً بأن الانطلاق نحو الوعي الكوني سيؤدي إلى اقتلاعها من جذورها ، ويكون الوهم أعمق عندما تعتقد بأن العولمة هي عملية اجتياح منظم يتجه لإلغاء كامل المسار التاريخي لوجودها الواعي ، فالوعي الأصولي وعي قائم على المجازفة الفكرية والإقحام المباشر وغير المباشر للعقول في خضم وعيه ، لأن الوعي الأصولي مدرك أن وعيه غير معمق في بنية الوعي البشري ضمن إطار الانتماء له ، بمعنى أن الوعي الأصولي هو وعي سطحي قائم شكلياً على ممارسة الطقوس والعبادات في إطارها الشكلي ، وعندما يتم الانخراط ضمن الوعي الكوني فإن مثل هذه الطقوس سوف تذهب ويذهب معها العقل المعبر عن وجودها ، فهذا الوعي من التفاعل مع البنية الكلية للوجود والوعي ضمن إطار كوني هو مجرد وهم تدعمه قوى معادية للفكر الأصولي في إطاره التاريخي ، لأن الوعي الأصولي يستطيع أن يعبر عن ماهية وجوده في إطار كوني بشكل أعمق ويكون قادراً على العبور العميق بمفاهيم تفوق الوصف لأن ماهية التشكيل المعرفي في بنيته قائمة على عطاءات شديدة المغزى بالنسبة إلى الوجود الكوني .


فالبنية المعرفية للإسلام أعمق مما يتصوره كافة المسلمون وأعمق من تصور القائمين على حمايته فالفكر الإسلامي يحمل في مفاهيمه قضايا تهم الوجود بالكامل وعندما يحين الزمن القادر على وضع النظام الكوني موضع التنفيذ سيكون عندها الدين الإسلامي قد اصبح ديناً كونياً في الوجود .


وتكون الأديان جميعاً قد دخلت في نظام من الترابط المحكم لدرجة عدم القدرة على التفريق بين بنية المكونات الدينية الداخلة في نظام العقيدة الفردية ، وبالتالي فإن الوجود الإنساني بكل كناياته القائمة سيكون منتمياً إلى الإسلام وإلى المسيحية واليهودية والبوذية وغيرها من العقائد القائمة في الوجود الإنساني بنفس الدرجة من الإحساس .


فالوجود المنغلق للأفكار والعقائد كثيراً ما يخفي وراءه مصالح أنانية لأن التعبئة الفكرية في إطارها المنكمش والمغلق تعبر عن وجود عدواني قائم بذاته غايته إحلال وجود قاهر ومانع لكل توق إنساني يميل نحو الانفتاح .


فالعلاقة بين الكائن وأصوله المرجعية قد لا تتفق مع البنية المتغيرة في الكون ، وبالتالي فإن الوعي الكوني يظهر في غايته وكأنه معادي لوجوده في الصميم ، ويظهر الوعي الكوني وكأنه يريد سحب الوعي المنغلق من جذوره بشكل يؤدي إلى تفجير الطاقة المؤكدة على الذات ، لأن وعيها غير قائم على المصداقية في علاقتها مع المنظومة المعرفية الداخلة في مجرياتها ولأن الارتباط بين الوعي الأصولي والوعي الكوني مبني على التنافر الشخصي بشكل يخالف نظام الوعي في سياق تاريخي ، فالعقائد تحمل في محتواها إطارها الكوني القابل للتوسع من خلال المتغيرات الجارية على العقل الإنساني ضمن الإطار الكوني ، فالوعي الكوني هو وعي منفتح على الكون وبالتالي جميع الواردات المعرفية ونظام العقائد وكل المفاهيم تدخل في إطار وعيه لها لأنها تمثل الوجود الجماعي للبشر في إطار كوني ، وبالتالي تصبح الخصوصية المحلية قضية مفتوحة على الوجود بعمق يوازي الوجود نفسه ، فلا شيء يذهب هدراً في منظومة البنى الكونية ، لأن المسألة غير محصورة بأفراد أو دول بل خاصية من خصائص الوجود الكوني نظراً للترابط بين ما يجري في أماكن محدودة وما يجري في العالم أجمع ، لأن التلازم بين ما يجري بشكل محلي وما يجري في النظام الكوني له جذور عميقة في التاريخ الإنساني . فالعالم في وجوده الكوني عالم دائم الوجود غير أن نمو الصناعة ونشوء الأنظمة الرأسمالية غيرت طبيعة النظام الكوني إلى نظام من الدول والقوميات المغلقة بما يؤدي إلى تعميم نفوذها بما يغاير الطبيعية الأصلية للوجود .


فالانغلاق القومي والمفاهيم الدالة على الانغلاق تعززت بعد نشوء المفاهيم الاستعمارية وبالتالي فإن التطور الباهر في مجال العلوم والتكنولوجيا وأجهزة الدمج الكوني تسعى لإرجاع الوجود الإنساني إلى ماهية الطبيعية . فالمجال الكوني لا ينمو وفق اتجاه واحد لأن توسيع النظام العالمي من الناحيتين السياسية والاقتصادية ينطوي في جوهره على المشاركة الوجدانية الفاعلة لكل المشاركين على الساحة الكونية ، وفقاً لمقدمات وأسس واحدة ، ولأن الطغيان في السياسة الدولية يعمق الانغلاق على الذات ويجعل العالم غير مستقر بناء على الأسس الموضوعية لوجوده ، كما أن الوجود الفردي المستفرد في بنيته الذاتية والمغلقة يمكن أن تؤدي إلى وجود كارثة ، فأي وجود منفرد في طاقاته المادية والعقلية وخصوصيته أو صناعته الداخلية يخلق نمو تضخمي لزوائد مرضية ضمن بنية الوجود الكوني ، بما يؤدي إلى الخوف من تحمل أعبائها، ويتجه الواقع الكوني نحو القيام بأعمال جراحية لإصلاح أوضاعه الكونية ، وكأن الكونية تجعل من التوازن قانونها الأساسي .


فالقضية الملفتة للانتباه في العصر الحديث تكمن في التطور المتزايد للرأسمالية العالمية وتعقد بينتها الداخلية وتوسع أسواقها خارج حدودها القومية أوجد الفرصة المناسبة لتشكل الدول القومية وتزايد انغلاقها على الذات كلما تزايد النمو الرأسمالي وتضخمت مصادره الإنتاجية ، وكلما تبلورت الثقافة السياسية الكونية ، تتعمق معها المشاركة الفعلية لمجمل الثقافات القومية و المحلية في إنتاج وتعميق الثقافة الكونية والمشاركة في تأمين التعريفات والميزات الخاصة بالوضع الكوني .
فقد نمت في العالم علاقات متبادلة بين التطورات الثقافية وأنماط التوسع خارج الحدود القومية للرأسمالية وبين الاستقطاب والاحتواء لأنظمة الدول القومية وبين إعادة العلاقة نحو التكامل والتفاعل من خلال فعاليات وعلاقات مشتركة بين الدول . فالعمق الدال على الوحدة الكونية يعزز القدرة الضمنية لنشاط الدفع الذاتي نحو الارتباط بالواقع الكوني على أنه برنامج عميق المدلول يدخل في نظامه التنوع الفريد للثقافات الكونية ، لأن العمق التواصلي بين الحضارات المختلفة قائم على التوازن في خلق ظروف قادرة على الإحاطة بجميع مجريات الأحداث وكل التفاصيل الكونية انطلاقاً من تعميق الثقافة المحلية القادرة على الصمود أمام التحديات الراهنة .


وبالنظر للمجتمع العام الكوني على أنه نظام من الدول يسير نحو حكم كوني تترابط فيه الوحدات الإدارية للدول المستقلة والمرتبطة ارتباطاً عضوياً في هذا النظام ، بشكل يجيز استقلال هذه الدول بما في ذلك احتكارها للقوة وبالتالي تنامي قدرتها على تدمير الجنس البشري ، عندها سيكون النظام الدولي في موضع شك من قدرته على تحقيق الضمان الكوني ، لأن الظروف السائدة في النشاط الدولي يجب أن تبتعد عن الاحتكار وإلغاء جميع القوى القاهرة في الكون ، لتحقيق نظام متعايش في إطار كوني بعيد كل البعد عن كل عمليات التهديد القابلة لأن تكون معززة بالقدرة على الإبادة ، فالوجود الكوني عليه أن يرفع من وجوده كل العقول القائمة على السيطرة لكي يتأمن وضع مناسب لنمو العلاقات الحرة ضمن الوجود الكوني .


" وعندما تنظر بعض الحركات إلى المجتمع الكوني على أنه القهر العام المفروض على أية حياة فردية أو جمعية أصيلة والتهديد العام للجنس البشري يمكن أن تتحول هذه الجماعات إلى مقاومة مثل هذه النظام " .


مخطئ من يظن بأن النظام العالمي والوحدة الكونية للعنصر البشري المتفاعل معه هو من إنتاج قوى كبرى ، لأن التوق إلى الوجود الإنساني العام في جوهره المنتمي إلى الوجود الكوني هو من مفاهيم جماعات صغيرة ومتعددة منتشرة ضمن الوجود البشري ، ترفع مغزى الحقيقة المرافقة لعلاقات قائمة على المستوى الكوني ، ولأن الوعي الكوني يخرج دائماً من عمق بنية فاعلة وطموحه ترى في الوجود الكوني ضالتها الكبرى .


إذا كان للعولمة مجال الوجود القائم على التنوع المعرفي والثقافي فإنها في طبيعة الأمر ستنطلق من هذا التنوع الثقافي والفكري ، تعزز مواقعها بشكل مؤكد في النظام الكوني ، لأن الوجود الإنساني يكون عندها هو التمازج الكلي لكل الثقافات .
من خلال توسيع الارتباط بين العناصر المختلفة في الكون يتعمق التواجد المرافق لقدرة العالم على إحداث أنماط متماسكة من التوازن والتفاعل القائم على المتغيرات الجارية في نظامه ، وتعميق التواجد المرافق لقدرة العالم على إحداث أنماط متماسكة من التوازن والتفاعل القائم على المتغيرات الجارية في نظامه ، وتعميق البنى البشرية المتوافقة مع الالتزام بالمبادئ الكونية ، لأن العلاقة القائمة بين الوجود المتمثل بطاقات الوجود المادية تندمج مع الفعالية الاجتماعية الثقافية المنطلقة من تغيير بنية المدلولات المتعاقبة مع تطور البنى البشرية ، فالواقع العام يتحد في نظام منفتح على الوجود جميع المعايير والقيم والثقافات تدخل في نظام من العلاقات الارتباطية والترابطية تعمق بنية العقل البشري وتجعله أكثر مقدرة على الاستيعاب . لأن تماثل الكون في ذاته يعمق جميع البنى الفاعلة فيه وتبدأ أولويات مهمة في تعميم البناء التعليمي والقدرة على إنتاج الإنسان الموسع القادر على الإحاطة بكل المجريات الحاصلة في النظام الكوني . عندها لن يكون هناك أي معنى للإنغلاق الثقافي والعقائدي لأن كل ثقافة في هذا الوجود تكون قد أصبحت ثقافة كونية وكل معرفة هي معرفة كونية ، وكل عمل إنساني يأخذ أبعاده ضمن المجرى الكوني ، لأن التواصل و الاتصال في نظام العالم يلغي الفوارق الخاصة بالتمايزات المجتمعية بحيث يتقارب الوعي البشري ويتداخل ضمن نظام
من التفاعلات الكونية ، على أساس أن الكون وحدة متكاملة ومترابطة في كل مناحي وأساليب الحياة على وجه الأرض .



2 – نظرية العولمة والاندماج الحضاري :


نظرية العولمة الكونية متعمقة في الوجود الإنساني وفق مقتضيات تاريخية تفرض نفسها على البنى الاجتماعية الناهضة في التاريخ الكوني ، لأن العمق البليغ للدلالة الحيوية على الفاعلية الإنسانية ، تعبر عن نفسها في سياق تاريخي عميق التكوين ، فالحضارات الكونية كانت تمتلك حركة النزوع نحو الكونية وإقامة نوع من العلاقات التوافقية المنسجمة مع تطلعات هذه الحضارات ، ونظراً لأهمية الغاية الاقتصادية في بنية الوجود الحضاري كان الفعل التوسعي يقوم على دمج المعطيات الاقتصادية لتعميق البنية القائمة وتقوية الوجود الحضاري ولم يكن الوجود الاقتصادي هو الغاية الكبرى لتعميق العبور بقدر ما كان للفكر الإبداعي قوة العبور خارج النطاق الحضاري وبالتالي توفر الظروف المناسبة للامتداد الحضاري عبر التاريخ .
غير أن الانتقال إلى عصر التفاعل والتواصل الكوني وتنامي المقدرة الإجمالية لعمليات الربط الإنسانية على كامل المساحة الأرضية ، غيّر من طبيعة الإدراك الحضاري في عالم متنوع الحضارات تتفاعل في إطار كوني ضمن خصوصياتها وضروراتها المعبرة عن وجودها كي تعمق هذا الوجود ليصبح أكثر غناً وثراءً لمعطياته العقلية .


لا بد من توفر الاستقلالية القادرة على تحقيق الوعي الحضاري النوعي ضمن الوجود الكوني ، فالوعي العميق لنظرية العولمة في المجال الكوني يدخل ضمن مجرى التحرر من الضغوط والإملاءات المعيقة لفهم النظرية الواضح . فالوعي البشري يرتفع ويتحرر من القيود الشكلية والاقتصادية ليكون أكثر التزاماً بوعي المصير الكوني ، فالوعي القائم في الوقت الحاضر مدرك لأبعاد وعيه نظراً للأخطار الجسيمة المحيطة بالوجود الكوني والناشئة من تنظيرات غير عقلانية يمكن أن تؤدي إلى كوارث محدقة بالجنس البشري .


إن فهم العولمة بأنها تحويل العالم إلى مكان واحد وبالتالي فإنها تقيد الحضارات أو تضغطها في نمطية واحدة ، وتلغي في سياقها كافة الأفكار المتفرقة والصادرة عن فئات بشرية متنوعة ومختلفة في إرثها الثقافي ونمطية وعيها التاريخي كي تكون العولمة منطبقة على مسمياتها الكونية كالقرية الكونية المتميزة في إسهاماتها النوعية الفريدة في جميع الميادين الثقافية والأخلاقية والاقتصادية وغيرها ، بمعنى ضغط العالم عقلياً في منظور محدد ليخدم وجود محدد أمر مخالف للتوجهات الكونية في المعرفة ومعادي في أساسه للثقافة الإنسانية والحضارات الإنسانية .


فالخصوصيات الثقافية لكل الجماعات البشرية وجميع البنى الفكرية للحضارات التاريخية في إطار العولمة تأخذ مجالها الموسع وتوسع الخصوصيات الثقافية والمفاهيمية وتوحدها في مجرى كوني وبالتالي فإن العولمة هي الكل المتكامل للثقافات البشرية وتعميم بنيتها على كامل الوجود الإنساني وبالتالي يأخذ الوعي مجالاً انفتاحياً على جميع الأفكار والثقافات المنتشرة في وجوده ويعبر عن محتواها بحرية ، وتدخل ضمن نظام البنية العامة للوجود الكوني وتصبح منطلقات أساسية نحو وجود أعمق وأكثر اتساع وبالتالي فإن العولمة تبتعد عن المفهوم القائل بأن العولمة هي تخصيص الكونية .
فالانشغال المتزايد بالقيمة العالمية للوجود الكوني في نظام العولمة يتوافق مع إظهار الجوانب الفكرية والمبادئ الثقافية والدلالية في بنية الحضارات المختلفة والأساسية حول مفاهيمها وثوابتها الكونية فكل حضارة متعمقة في الوجود الإنساني ، تحمل في طياتها مفاهيم كونية على غاية من الأهمية لأن بناءها الجوهري مبني على أساس كوني ، ومن خلال تعميق المفاهيم الكونية في الثقافات والحضارات الإنسانية تتعمق البنية الأساسية لمفاهيم العولمة في إطارها الكوني وجميع المناهضين للمفاهيم الكونية ، ينطلقون من مفاهيم متزمتة وعنصرية وهي في طبيعتها أكثر انغلاقية على الذات ، أو مفاهيم متحجرة من أصول عرقية أو ناتجة عن الخوف من طغيان شديد وكاسح لشركات عملاقة وسياسات اقتصادية ، غايتها ابتلاع ثروة الوجود وتركيزها بأيدي أقلية طاغية تستطيع من خلال ذالك السيطرة على المجريات الكونية بما يتفق مع مصالحها الأنانية .
غير أن المقاربة بين الحضارات الإنسانية من خلال النظر المحدد حول مفاهيمها عن البنية الكونية والتفاعل العالمي يوسع الأبعاد الحقيقية لفكرة العولمة ويعطيها فاعلية متوافقة مع الوعي الحضاري والكوني لوجود الإنسان القادم .
فالعولمة نظرية منفتحة على الوجود الكوني من خلال تركيزها الأساسي على مبادئ وفاقية بين البشر ، والاعتماد على كامل المظاهر الثقافية لنظام العالم ، والدراسة المنهجية للمسارات الحضارية والاجتماعية الداخلية وهي تتشكل ضمن واقع يتوجه بفاعلية نحو الكينونة العالمية والمشاركة الوجدانية لجميع الحضارات والمجتمعات في بناء الظرف الإنساني الكوني .
فالتوجهات المتزايدة للمؤسسات الدولية لوضع نظام محدد وموحد لحقوق الإنسان في العالم أجمع ، يمكن أن يوضح الرؤية القائمة حول التوجهات المستقبلية نحو تفعيل الوجود الإنساني بعد تأمين حقوق الإنسان الأساسية ، وتتعمق المطالب نحو الوصول إلى أفضل مصالح للبنية الإنسانية بكاملها .
فالحياة الإنسانية تواجه اليوم ثلاث ظواهر كبرى تهدد البناء الإنساني هي ( الكارثة البيئية والتدمير النووي والإيدز ) وكل واحدة منها هي مشكلة ملحة على النطاق الكوني .
فالحقيقة الإنسانية تتفاعل في بنية الوجود الإنساني لتعمق الوسائل الكفيلة بالتغلب على هذه الكوارث ، وخلق واقع كوني خالي من وجودها أو توفير الإمكانية لتقليص مخاطرها على التوجهات الإنسانية ، وإزالة مخلفاتها السلبية وتعميق روح المواجهة في بنية النفس الإنسانية لمنع التزايد المدمر لبقائها كونها قائمة على نفس الوتيرة من التخريب .
فالتساؤلات المنتشرة على المستوى العالمي حول بداية الحياة الإنسانية ونهايتها تعمق واقع الخوف في العقل الإنساني على كامل وجوده ويتعمق معه واقع أخر حول إمكانية خلق أساليب علمية وتكنولوجيا طبية قادرة على إطالة العمر الزمني للبشر .
فقد توصل البشر إلى قناعة راسخة بأن العلم هو الناظم والقاسم المشترك لكافة البنى الإنسانية بمختلف أشكال تواجدها وتنوع ثقافاتها ، فالمظاهر البشرية الساعية لتحقيق الشرط الإنساني العالمي تتحول إلى توجهات منظمة ضمن آفاق متنوعة ومختلفة التسميات غير أنها تميل نحو واقع إنساني موحد في وجوده الثقافي وكل حركات السلام ومنظمات أطباء بلا حدود ومحامين بلا حدود وفعاليات متنوعة أصبحت تنشط بلا حدود لتعمق الوجود الكوني وتعطية الأبعاد الكاملة لحرية الاندماج والمهام المطروحة أمام عولمة العالم .

لمرجع المعتمد :
رونالد روبرتسون : العولمة النظرية الاجتماعية والثقافة الكونية – ترجمة أحمد محمود ونور أمين – مراجعة وتقديم محمد حافظ دياب – صادر عن المجلس الأعلى للثقافة – عام 1998 م .